فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عجيبة:

الإشارة: كل من اتخذ شيئًا يتعزز به من دون الله وطاعته انقلب عليه ذُلًا وهوانًا، ولذلك قيل: «من تعزز بمخلوق مات عزه». فإن أردت عزًا لا يفنى فلا تتعزز بعز يفنى، وهو التعزز بالمال أو الجاه، أو غير ذلك مما يفنى، وسيأتي عند قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعًا} [فاطر: 10]. {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنَافِقون: 8] زيادة بيان. وكما أرسل الحق تعالى الشياطين على الكافرين تزعجهم إلى المعاصي أرسل الملائكة والواردات الإلهية إلى المؤمنين تنهضهم إلى طاعة الله، وتزعجهم إلى السير لمعرفة الله. فالملائكة تحرك العبد إلى الطاعة، والواردات تزعجه إلى الحضرة، تخرجه عن عوائده وتدمغ له مِن علائقه، وعوائقه، حتى ينفرد لحضرة الحق: وفي الحكم: (الوارد يأتي من حضرة قهار، لأجل ذلك لا يصادمه شيء إلا دمغه؛ {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}). وقال أيضًا: متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك؛ (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها).
وقال القشيري على قوله: {تؤزهم أزًّا}: أي: تزعجهم إزعاجًا، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وظلمة، وخاطر الحقِّ يكون بَروْحٍ وسكون، وهذه إحدى الفوارق بينهما. اهـ. قلت: ومن الفوارق أيضًا: أن خاطر الحق لا يأمر إلا بالخير مع برودة وانشراح في القلب وسكون وأناة... وفي الحديث: «العجلة من الشيطان، والأناة من الرحمن». بخلاف خاطر الشيطان؛ فإنه لا يأمر إلا بالشر، وقد يأمر بالخير إذا كان يجرُّ به إلى الشر، وعلامته أن يكون فيه ظلمة ودَخن وعجلة وبطش، وقد استوفى الكلام عليهم في النصيحة الكافية. وبالله التوفيق. اهـ.

.تفسير الآيات (85- 87):

قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين مآل حال الكافرين في آلهتهم ودليله، أتبعه بوقته فقال: {يوم} أي يكفرون بعبادتهم يوم {نحشر المتقين} أي العريقين في هذا الوصف؛ ولما تقدمت سورة النعم العامة النحل، وأتبعت سورة النعم الخاصة بالمؤمنين وبعض العامة، مثل {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70]، ثم سورتي الخاصة بالصالحين الكهف وهذه، قال: {إلى الرحمن} فيدخلهم دار الرضوان، فذكر الاسم الدال على عموم الرحمة، وكرره في هذه السورة تكريرًا دل على ما فهمته، وربما أيد ذلك افتتاح النحل بنعمة البيان على هذا الإنسان التي عبر عنها بالخصيم، وختام هذه بالقوم اللد من حيث رد مقطع هذه التي كانت بالنظر إلى النعم شيئًا واحدًا على مطلعها {وفدًا} أي القادمين في إسراع ورفعة وعلى، كما تقدم الوفود على الملوك، فيكونون في الضيافة والكرامة.
ولما ذكر ما يدل على كرامة أوليائه، أتبعه ما يدل على إهانة أعدائه فقال: {ونسوق المجرمين} أي بالكفر وغيره من المعصية، كالبهائم سوقًا عنيفًا مزعجًا حثيثًا {إلى جهنم} بسطوة المنتقم الجبار {وردًا} أي عطاشًا {لا يملكون الشفاعة} أي لا يملك أحد من القسمين أن يَشفَع ولا أن يشفَّع فيه {إلا من اتخذ} أي كلف نفسه واجتهد في أن أخذ {عند الرحمن عهدًا} بما وفقه له من الإيمان والطاعة التي وعده عليها أن يشفع أو أن يشفع فيه؛ فالآية من الاحتباك: ذكر الرحمن أولًا دليلًا على المنتقم ثانيًا، وجهنم ثانيًا دليلًا على حذف الجنة أولًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم بين سبحانه ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين وبين المجرمين في كيفية الحشر فقال: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا} قال صاحب الكشاف: نصب يوم بمضمر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف أو اذكر يوم نحشر ويجوز أن ينتصب بلا يملكون عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن المتقين إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة عليها رحال الذهب» ثم تلا هذه الآية.
وفيها مسائل:
المسألة الأولى:
قال القاضي هذه الآية أحد ما يدل على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فهم آمنون من الخوف فكيف يجوز أن تنالهم الأهوال؟
المسألة الثانية:
المشبهة احتجوا بالآية وقالوا قوله: {إِلَى الرحمن} يفيد أن انتهاء حركتهم يكون عند الرحمن وأهل التوحيد يقولون المعنى يوم نحشر المتقين إلى محل كرامة الرحمن.
المسألة الثالثة:
طعن الملحد فيه فقال قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا} هذا إنما يستقيم أن لو كان الحاشر غير الرحمن أما إذا كان الحاشر هو الرحمن فهذا الكلام لا ينتظم، أجاب المسلمون بأن التقدير يوم نحشر المتقين إلى كرامة الرحمن أما قوله: {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وردًا} فقوله: {نَسُوقُ} يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء، والورد اسم للعطاش، لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش.
وحقيقة الورود السير إلى الماء فسمي به الواردون أما قوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة} أي فليس لهم والظاهر أن المراد شفاعتهم لغيرهم أو شفاعة غيرهم لهم فلذلك اختلفوا، وقال بعضهم: لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون وقال بعضهم: بل المراد لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم وهذا الثاني أولى لأن حمل الآية على الأول يجري مجرى إيضاع الواضحات وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر لأنه قال عقيبه: {إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} والتقدير أن هؤلاء لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا قد اتخذوا عند الرحمن عهدًا التوحيد والنبوة فوجب أن يكون داخلًا تحته ومما يؤكد قولنا: ما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قال لأصحابه ذات يوم:
«أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدًا؟ قالوا؛ وكيف ذلك؟ قال: يقول كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدًا عبدك ورسولك فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتبعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهدًا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة»، فظهر بهذا الحديث أن المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه دلالة الآية على أن الشفاعة لأهل الكبائر وقال القاضي: الآية دالة على مذهبه وقد ظهر أن الآية قوية في الدلالة على قولنا، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

{وَفْدًا}.
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ركبانًا، قاله الفراء.
الثاني: جماعة، قاله الأخفش.
الثالث: زوّارًا، قاله ابن بحر.
قوله عز وجل: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: مشاة، قاله الفراء.
الثاني: عطاشًا.
الثالث: أفرادًا. اهـ.

.قال ابن عطية:

{يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن}.
و(الحشر) الجمع، وقد صار في عرف ألفاظ الشرع البعث من القبور، وقرأ الحسن {يوم الحشر المتقون ويساق المجرمون}، وروي عنه {ويسوق المجرمين} بالياء. و{المتقون} هم المؤمنون الذين غفر لهم، وظاهر هذه الوفادة أنها بعد انقضاء الحساب، وإنما هي النهوض الى الجنة، وكذلك سوق المجرمين إنما هو لدخول النار. و{وفدًا} قال المفسرون معناه ركبانًا وهي عادة الوفود لأنهم سراة الناس وأحسنهم شكلًا فشبه أهل الجنة بأولئك لا أنهم في معنى الوفادة إذ هو مضمن الانصراف، وإنما المراد تشبيههم بالوفد هيئة وكرامة، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم يجيئون ركبانًا على النوق المحلاة بحلية الجنة خطمها من ياقوت وزبرجد ونحو هذا، وروي عن عمر بن قيس الملائي أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن، وروي «أنهم يركب كل أحد منهم ما أحب فمنهم من يركب الإبل ومن يركب الخيل ومن يركب السفن فتجيء عائمة بهم»، وقد ورد في الضحايا أنها مطاياكم إلى الجنة، وفي أكثرها بعد، لكن ذكرناه بحسب الجمع للأقوال و(السوق) يتضمن هوانًا لأنهم يحفزون من ورائهم، و(الورد) العطاش قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن، وهم القوم الذين يحتفزون من عطشهم لورود لماء، ويحتمل أن يكون المصدر المعنى نوردهم {وردًا} وهكذا يجعله من رأى في القرآن أربعة أوراد في النار وقد تقدم ذكر ذلك في هذه السورة، واختلف المتأولون في الضمير في قوله: {يملكون} فقالت فرقة: هو عائد على المجرمين، أي {لا يملكون} أن يشفع لهم ولا سبيل لهم إليها، وعلى هذا التأويل فهم المشركون خاصة، ويكون قوله: {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدًا} استثناء منقطعًا، أي لكن من اتخذ عهدًا يشفع له، والعهد على هذا الإيمان قال ابن عباس: العهد لا إله إلا الله. وفي الحديث: «يقول الله تعالى يوم القيامة من كان له عندي عهد فليقم» وفي الحديث: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن تامة كان له عند الله عهد أن يدخل الجنة» والعهد أيضًا الإيمان وبه فسر قوله: {لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124] ويحتمل أن يكون {المجرمون} يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم {لا يملكون الشفاعة} إلا العصاة المؤمنون فإنهم يشفع فيهم فيكون الإستثناء متصلًا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله» فيقول يا محمد أنها ليست لك ولكنها لي. وقالت فرقة: الضمير في قوله: {لا يملكون} للمتقين، قوله: {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدًا} أي إلا من كان له عمل صالح مبرز يحصل به في حيز من يشفع وقد تظاهرت الأحاديث بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن في أمتي رجلًا يدخل الله بشفاعته الجنة اكثر من بني تميم»، قال قتادة: وكنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين، وقال بعض هذه الفرقة معنى الكلام {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدًا} أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا لهذه الصنيفة فيجيء {من} في التأويل الواحد للشافعين، وفي الثاني للمشفوع فيهم، وتحتمل الآية أن يراد ب {من} محمد عليه السلام وبالشفاعة الخاصة لمحمد العامة للناس، ويكون الضمير في {يملكون} لجميع أهل المواقف، ألا ترى أن سائر الأنبياء يتدافعون الشفاعة حتى تصير إليه فيقوم إليها مدلًا، فالعهد على هذا النص على أمر الشفاعة، وقوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} [الأسراء: 79]. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يوم نحشر المتقين}.
قال بعضهم: هذا متعلق بقوله: {ويكونون عليهم ضدًا يوم نحشر المتقين} وقال بعضهم: تقديره: اذكر لهم يوم نحشر المتقين، وهم الذين اتَّقَوْا الله بطاعته واجتناب معصيته.
وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: {يَوم يحشُر} بياء مفتوحة ورفع الشين {ويَسُوق} بياء مفتوحة ورفع السين.
وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن البصري، ومعاذ القارىء، وأبو المتوكل الناجي: {يوم يُحشَر} بياء مرفوعة وفتح الشين {المتقون} رفعًا {ويُسَاق} بألف وياء مرفوعة {المجرمون} بالواو على الرفع.
والوفد: جمع وافد، مثل: ركَبْ، ورَاكِب، وصَحْب، وصاحِب.
قال ابن عباس، وعكرمة، والفراء: الوفد: الركبان.
قال ابن الأنباري: الركبان عند العرب: ركَّاب الإِبل.
وفي زمان هذا الحشر قولان:
أحدهما: أنه من قبورهم إِلى الرحمن، قاله علي بن أبي طالب.
والثاني: أنه بعد الحساب، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: {ونسوق المجرمين} يعني: الكافرين {إِلى جهنم وِردًا} قال ابن عباس، وأبو هريرة، والحسن: عِطَاشًا.
قال أبو عبيدة: الوِرد: مصدر الورود.
وقال ابن قتيبة: الوِرد: جماعة يَرِدون الماء، يعني: أنهم عطاش، لأنه لا يَرِد الماءَ إِلا العطشان.
وقال ابن الأنباري: معنى قوله: {وِرْدًا}: واردين.
قوله تعالى: {لا يملكون الشفاعة} أي: لا يشفعون، ولا يُشفَع لهم.
قوله تعالى: {إِلا من اتَّخذ عند الرحمن عهدًا} قال الزجاج: جائز أن يكون {مَن} في موضع رفع على البدل من الواو والنون، فيكون المعنى: لا يملك الشفاعة إِلا من اتخذ عند الرحمن عهدًا؛ وجائز أن يكون في موضع نصب على استثناءٍ ليس من الأول، فالمعنى: لا يملك الشفاعة المجرمون، ثم قال: {إِلا} على معنى (لكن) {مَن اتخَذ عند الرحمن عهدًا} فإنه يملك الشفاعة.
والعهد هاهنا: توحيد الله والإِيمان به.
وقال ابن الأنباري: تفسير العهد في اللغة: تقدمة أمر يُعْلَم ويُحْفَظ، من قولك: عهدت فلانًا في المكان، أي: عرفته، وشهدته. اهـ.